عن الغيرة وأشياء أخرى – العتاب واللوم في الحُبِّ لا غُبار عليهما، والغيرة جائزة. أما الشك فمن نقائضهِ والجدال من شِيَمِ الكارهين .. لا أعرف شيئًا يمسُّ القلب كالمحبة التي يحملها صدر أحدهم لقلبٍ يَغارُ عليه، ولا أجمل من مشهد قلبيّ حبيبين انتابت قلب أحدهما الغيرة ومن بعدها التقيا.
للحب آفات، ومنها الغيرة؛ وفيها المُحِب ينحرف بها عن مُحِبِه، ولكن لا يترك حبهُ له أو يهجره. وإنما منحرفٍ كمُقبِل، وساكتٍ كناطق، وما تجهر به نفسه وقتئذٍ غير الذي كان في صدره.
ولا يسلم من داء الغيرة مُحِبان أو ينجو من نارها أحدٌ، وإلا ما سُمِّي حُبهم حُبًا. فحتى الأنبياء والرُسل كان يُغَار عليهم من زوجاتهم أشد الغيرة. فعندما تزوج سيدنا إبراهيم السيدة هاجر، أقسمت السيدة سارة “زوجته الأولى” أن تقطع أحد أعضاء هاجر؛ فأمرها زوجها أن تبرّ قسمها بثقب أذنيها.. فصارت سُنةً بعد ذلك.
ولما وضعت فيها قرطين، قالت سارة عن هاجر:
ما أري هذا زادها إلا حُسنًا وجمالًا.
كما كانت السيدة حفصة رضي الله عنها تَطهي أفضل الطعام، فبعثت بغلام للرسول بطبق. فأخذته السيدة عائشة للنبي صل الله عليه وسلم؛ وبينما هي تناوله له، وكزتهُ كي يقع علي الأرض.. فقال النبي صل الله عليه وسلم للصحابة “لقد غارت أمكم .”
إنه من عجيب ما يقعُ في الحُبِّ الغيرة. فإنها من الآفات التي قد تنهي علاقةً حَيَةً لمجرد ظن ليس في محله أو تهور في اتخاذِ قراراتٍ خاطئة، غير أنها أيضًا قادرة على جمعِ القلوب وهي خصُوم!
فقد جاء في الأثر أن تقدمت امرأة إلى مجلس القاضي موسى بن إسحاق بمدينة الريّ سنة 286هـ، فادّعى وكيلها بأن لموكِّلته على زوجها خمسمائة دينار (مهرها)، فأنكر الزوج .
فقال القاضي لوكيل الزوجة: شهودك. قال: أحضرتهم.
فطلب أحد الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد وقال للمرأة: قومي.
فقال الزوج: ماذا تفعلون؟
-قال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك كي يعرفوها .
قال الزوج: إني أُشهد القاضي أنّ لها عليّ هذا المهر الذي تدّعيه ولا تَكشف عن وجهها.
••فقالت المرأة: فإني أُشهِد القاضي أني وهبت له هذا المهر وأبرأتُ ذمته في الدنيا والآخرة.
*فقال القاضي وقد أُعجِب بغيرتهما: يُكتب هذا في مكارم الأخلاق.
يقول ابن القَيِّم رحمه الله: “إذا ترحلت الغَيْرة من القلْب، ترحلت منه المحبَّة، بل ترحل منه الدِّين كله” .
والغيرة غير الشك. فالشك من الأمور التي تحيل حياة الأشخاص إلى جحيم، يلجأ فيه الإنسان إلى الظن في حُكمهِ على الأشياء دون أن يكون على بَيّنَةٍ صحيحة؛ ولأن المرء منا في الغالب يترك العنان لأحاسيسهِ التي تُخطِئ كثيرًا، فإننا نجد في الغالب أيضًا قرائن تزيد من الشكوك!
فترى الشخص تلفت انتباهه من الطرف الآخر تصرفات عادية تزيد من توجسه، فتسوء العلاقة، ثم يأتي الخِلاف ومن ثَمَ الهجر.
أما الغيرة فهي وجهٌ من وجوهِ الحُب وعلامة من علاماته، ليس بها من الشكِ خِصال. غير أنها “ملح الحُب” الذي لا تكتمل العلاقة بدونهِ، ولا يشوبها أو يشوب صاحبها شيء إلا إذا تطورت، أو أفرط صاحبها في الغيرة حد الهلاك.
فينبغي للمُحب أن يكون مُعبرًا عن الغائب ويُحسِنَ من ذات نفسه، وأن يثقَ في مَن أحَب. لأن في مرحلة ما بعمرك ستعرف أن الاحترام أهم من الحب، والتفاهم أهم من التناسب، والثقة أهم من الغيرة، والصبر أعظم طريق للوصول لأي شيء.
يمكنكم متابعة المزيد من خلال صفحتنا على فيسبوك مهذبون