علماء مهذبون – الحلقة الأولى – مهذبون معا نرتقي

العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء أحسن الناس خُلقا، فمن ورثهم لم يكتفي بعلمهم، وإنما نهل من فيض أخلاقهم ومن حسن سيرهم، فخرجت لنا أجيال متعاقبة هي أمثلة في الخلق الحسن والسيرة العطرة، كانت أخلاقهم دليلا علي علمهم، وثمرة من ثمراته. وإن أمتنا زاخرة بعلماء حسنت سيرتهم وأخلاقهم، ونحن هاهنا نحاول أن نبرز جانب الأخلاق في سيرة بعض هؤلاء العلماء؛ لكي نتعرف عليهم عن قرب في حياتهم وتعاملاتهم مع الناس من خلال مجموعة من المقالات تأتي تباعا بعنوان “علماء مهذبون”. ونقطة الانطلاق هي الإمام البخاري.

لقد كان البخاري اية في الأخلاق شهد له بذلك القاصي والداني، ولم يقتصر حسن خلقه علي من كان بينه وبينهم حب ومودة، بل كان رحمه الله منصفا غير متعصب إلا للحق، حتي أننا إذا طالعنا الصحيح، نجد في أسانيد صحيحة رجالا ليسوا من أهل السنة، ولم يترك البخاري روايتهم رغم أنه كان يخالفهم في المذهب. ولكن هذا التسامح كان محدودا فيما لا يتطرق الشك من أجله في الرواية.[1]  

ولقد كان البخاري عالما بالحديث رواية ودراية، فكان عالما بالجرح والتعديل ، يحتاط في ذكر محاسن الرواة، ولم يكن يتردد في ذكر أوصافهم الحقيقية وعدالتهم إذا صح ذلك.[2]

حتي لقد قال عنه ابن حجر في مقدمة الفتح المسماة بهدي الساري:” وللبخاري في كلامه علي الرجال توق زائد، وتحر بليغ، يظهر لمن تأمل في كلامه في الجرح والتعديل، فإن أكثر ما يقول: “سكتوا عنه”، “فيه نظر”، ” تركوه”، وقل أن يقول: “كذاب”، أو “وضاع”، وإنما يقول: “كذبه فلان” أو “رماه فلان”. يعني بالكذب.[3]

ومع كونه رجلا عالما بعلم الرجال، نقادا لهم في العلم، إلا أنه كان يحذر كل الحذر أن يقع في عرض أحد بغيبة أو نميمة أو ذم أو نقيصة.

فكان رحمه الله ورعا تقيا بعيدا عن الغيبة غاية البعد، وكان يقول: ” ما اغتبت أحدا قط منذ أن علمت أن الغيبة حرام”[4]

وكان يقول: ” أرجوا أن ألقي الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا”[5]

وبلغ من ورع البخاري رحمه الله أنه قال يوما لأبي معشر الضرير: ” اجعلني في حل يا أبا معشر، فقال: من أي شيء؟ فقال: رويتُ حديثا يوما فنظرتُ إلي قد أعجبت به وأنت تحرك رأسك ويديك. فتبسمتُ من ذلك. فقال: أنت في حل. يرحمك الله يا أبا عبد الله.”[6]

إن مثل هذا الموقف يدل دلالة واضحة علي مدي ورع البخاري وتقواه، لقد خاف رحمه الله أن يكون تبسمه من فعل أبي معشر أمرا يحاسب عليه أمام الله ويقتص منه أبو معشر لذلك، حتي صار فعله من طلب الحل مثار تعجب لأبي معشر نفسه مما جعله يختم كلامه مع البخاري بدعائه له.

ومع كونه مشتغلا بالعلم فلقد كان يملك المال، وكان ينفقه في سبيل الله، وكان البخاري جوادا سخيا، كثير الانفاق في سبيل الله، يعين الطلبة من ماله، ويتنازل عن حقه إن كان في المطالبة به أذي لغيره،  ” فأنشأ مكانا للرباط بقرب بخاري، وكان كثير البر والصدقة، يعطي الطالب العشرين والثلاثين, وأعطي رجلا ثلاثمائة درهم. وقال وراقه: ” وهبني مرة ألف درهم”[7]

وكان له غريم قطع عليه مالا كثيرا حضر إلي بلدة قريبا منه، فقال له أصحابه: ينبغي أن تعبر وتأخذ بمالك. فقال: ليس لنا أن نروعه.

ولما كتب أصحابه إلي السلطان بدون علمه وجد وجدا شديا، وقال: لا تكونوا أشفق علي من نفسي! وكتب إلي بعض أصحابه ألا يتعرض لغريمه إلا بخير”[8]

لقد كان البخاري أيضا صاحب مبادئ وقيم يلتزم بها ، فبمجرد أن يعقد النية علي أمر ما فعله، حتي لو كان في نقض هذه النية ـوهي مجرد نيةـ  مكاسب قد تبلغ ضعف ما يعود عليه من هذه التي تعود عليه من أجل نيته، ” فقد حمل إليه بضاعة فاجتمع بعض التجار إليه بالعشية وطلبوها منه بربح خمسة الاف درهم، فقال لهم: انصرفوا الليلة، فجاءه من الغد تجار اخرون فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة الاف درهم، فردهم وقال: إني نويت البارحة أن أدفعها إلي الأولين، فدفعها إليهم وقال: لا أحب أن أنقض نيتي”.[9]

وكان رحمه الله رادا الحقوق إلي أصحابها، فذات مرة وهو يرمي أصاب وتدا بقنطرة علي النهر، فانشق الوتد، فنزل عن دابته فأخرج السهم من الوتد وترك الرمي، وقال لأصحابه: ارجعوا، وقال لأبي جعفر وهو يتنفس الصعداء: لي إليك حاجة، فقال: نعم، قال: تذهب إلي صاحب القنطرة فتقول إنا أخللنا بالوتد، فنحب أن تأن لنا في إقامة بدله، أو تأخذ ثمنه وتجعلنا في حل مما كان منا، وكان صاحب القنطرة حميد بن الأخضر، فلما أبلغه أبو جعفر بما قاله البخاري، قال أبلغ أبا عبد الله السلام، وقل له أنت في حل مما كان منك فإن جميع ملكي لك الفداء، فأبلغه أبو جعفر الرسالة فتهلل وجهه وأظهر سرورا كثيرا، وقرأ ذلك اليوم للغرباء خمسمائة حديث، وتصدق بثلاثمائة درهم[10]

إن هذا الذي ذكرنا إنما هو غيض من فيض، وقليل من كثير، فلو جلسنا نعدد في أخلاق هذا العالم التقي الورع لما كفانا ولا وسعنا الكثير من الأسفار والكتب، وإنما هي نقطة من بحر أخلاقه قصد منها الوقوف علي جزء من حياة هذا الإمام الجليل.

علماء مهذبون بقلم : جلال عطية


[1] سيرة الإمام البخاري للمباركفوري جـ1صـ135

[2] السابق صـ136

[3] هدي الساري لابن حجر صـ504

[4] سيرة الامام البخاري صـ134

[5] هدي الساري صـ505 و جزء فيه ترجمة البخاري للذهبي صـ53

[6] هدي الساري صـ504 و سرة الامام البخاري صـ134

[7] جزء فيه ترجمة البخاري للذهبي صـ53

[8] سيرة الامام البخاري صـ127 باختصار

[9] هدي الساري صـ504

[10] هدي الساري صـ504

Comments

comments

عن Waleed

شاهد أيضاً

وتفرقا عليه

وتفرقا عليه …. بقلم روضة صلاح .. مهذبون معا نرتقي

وتفرقا عليه … بقلم روضة صلاح وتفرقا عليه .. بعد أن قَتَل قابيل هابيل ورُميَ …