الفتى النجيب الذي صار إماما
الفتى النجيب الذي صار إماما

الفتى اليتيم الذي صار إماما …علماء مهذبون … معا نرتقي …

الفتى اليتيم الذي صار إماما

الفتى اليتيم الذي صار إماما ..

الثوب الأبيض لا يُقبل فيه أي شائبة و العلماء كذلك لا يقبل منهم الخلق الذميم فالخلق الحسن والسيرة الطيبة زينة العالم ليتوج علمه بتاج الأخلاق, ولله در القائل:

لا تحسبن العلم ينفع وحده        ما لم يتوج ربه بخلاق

وإن عَالِمنا اليوم كان حجة من الله علي خلقه حفظ الأمة في فتنة كادت تعصف بها وصبر علي ما نزل به من الأذى والبلاء حتي كان بحق هو إمام السنة والجماعة هو الإمام ” أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني” (رضي الله عنه).

نشأ الإمام أحمد يتيما وقامت أمه بتربيته برعاية عمه ولقد ظهرت عليه النجابة والتقي منذ نعومة أظفاره, وأكسبه اليتم جدا وقوة احتمال ورغبة في العمل وكان الآباء يلاحظون ذلك عليه ويريدون أن يصبح أبنائهم علي مثاله ويروي أن بعض الاباء قال:” أنا أنفق علي ولدي وأجيئهم بالمؤدبين علي أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون وهذا ابن حنبل غلام يتيم, انظروا كيف! وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته”[1]

ولفت الإمام أحمد الأنظار منذ صغره حتي قال عنه الهيثم بن جميل:” إن عاش هذا الفتي فسيكون حجة أهل زمانه”[2]

ولقد كان الإمام أحمد حسن العشرة ولم يكن فظا ولا غليظا بل كان طلق النفس والوجه كريم الخلق لينا وكان شديد الحياء يستحي من الله ـ تعالي ـ حق الحياء فلا ينافق ولا يواري ويستحي من الناس فلا يأمرهم ولا يكابرهم ويقول بعض معاصريه: ” ما رأيت في عصر أحمد ممن رأيت, أجمع منه ديانة وصيانة وملكا لنفسه, وفقها, وأدب نفس, وكرم خلق, وثبات قلب, وكلام مجالسة وأبعد عن التماوت”[3]

وكان أحمد رحمه الله كريما ورث الكرم عن أهل بيته فكان أبوه جوادا كريما فتح داره بخراسان لوفود العرب تنزل عليه فيضيفها ويكرم مثواها[4]

وكان رحمه الله جوادا سخيا لا يبخل ولا يضن وربما جاد بكل ما يملك أو نصفه وهو في أشد الحاجة إليه يقول أبوسعيد بن أبي حنيفة المؤدب لعبد الله ابن الإمام أحمد: ” كنتُ آتي أباك فيدفع لي الثلاثة الدراهم وأقل وأكثر ويقعد معي ويتحدث وربما أعطاني الشيء وقال : أعطيتك نصف ما عندنا فجئت يوما فأطلت القعود أنا وهو قال: ثم خرج ومعه تحت كسائه أربعة أرغفة. فقال: هذا نصف ما عندنا. فقلت: هي أحب إلي من أربعة الاف من غيرك.[5]

وقال هارون المستملي: لقيت أحمد بن حنبل فقلت: ما عندنا شيء. فأعطاني خمسة دراهم وقال ما عندنا غيرها.[6]

وعلي رغم أنه كان فقيرا محدودا ولم يكن مجدودا ذا مال وفير كان يؤثر الخصاصة علي أن يكون ذا مال لا يعرف مورده كما كان ينفر من أن يكون لأحد عليه يد فتناله منة العطاء[7]. فكان رحمه الله عزيز النفس بحق لا يجد غضاضة في العمل ليكفي مؤنته في إقامته وأسفاره ففي رحلته إلي صنعاء ليسمع من عبد الرزاق بن همام انقطعت به النفقة فأكري نفسه[8] من بعض الجمالين إلي أن وافي صنعاء ولقد كان رفقائه يحاولون أن يمدوا له يد العون فكان يردها شاكرا حامدا لله أن أعطاه القوة التي تمكنه من أن يُحصل نفقته بقوة بدنه. ولما وصل إلي صنعاء حاول عبد الرزاق أن يعينه فقال: يا أبا عبد الله خذ هذا الشيء فانتفع به, فإن أرضنا ليست بأرض متجر ولا مكسب, ومد إليه يده بدنانير. فقال أحمد: أنا بخير. ومكث علي هذه المشقة سنتين استهان بهما؛ حيث سمع أحاديث عن طريق الزهري وابن المسيب لم يكن يعلمها من قبل.[9]

وكان رحمه الله إذا ضاقت به الأحوال في سفره كتب بالأجرة ولا يقترض. قال علي بن الجهم: كان لنا جار فأخرج لنا كتابا فقال: تعرفون هذا الخط؟ قلنا: هذا خط أحمد بن حنبل؟ فكيف كتب لك؟! قال: كنا بمكة مقيمين عند سفيان بن عيينة ففقدنا أحمد أياما ثم جئنا لنسأل عنه فإذا الباب مردود عليه فقلت: ما خبرك؟ قال: سرقت ثيابي. فقلت: معي دنانير فإن شئت صلة وإن شئت قرضا فأبي فقلت: تكتب لي بأجرة؟ قال: نعم. فأخرجت دينارا فقال: اشتر لي ثوبا واقطعه نصفين, وجئني بورق ففعلت وجئت بورق فكتب لي هذا.[10]

لقد كان أحمد زاهدا متنزها عن كل ما فيه شبهة ولو ضؤلت. وكان يري أن الزهد الذي يلين القلوب ويرقق النفوس, هو طلب الحلال الذي لاشك فيه. جاءه يوما أبو حفص عمر بن صالح بن طرسوس فقال: يا أبا عبد الله بم تلين القلوب؟ فأبصر إلي أصحابه ثم أطرق ساعة ثم قال: يا بني بأكل الحلال.[11]

وكان رحمه الله عفوا متسامحا حتي مع من اذوه وكانوا سببا في نزول العذاب به حتي أنه أحل المعتصم مما أوقعه به من الأذى والضرب قال الحسن بن عبد الله الخرقي: سمعت أبا عبد الله يقول: أحللت المعتصم من ضربي، وأرسل إليه المتوكلُ العلوي الذي سعي به إلي السلطان ليقول فيه مقالة للسلطان فعفا عنه وقال: لعله يكون له صبيان يحزنهم قتله.[12]

وجاءه رجل فقال: يا أيا عبد الله قد اغتبتك فاجعلني في حل. قال: أنت في حل ما لم تعد.[13]

وكان رحمه الله إذا أراد الانصراف من مجلسه استأذن جلسائه فقال: إذا شئتم[14]

إن من أبرز صفات أحمد الصبر والجَلد وهي ثمرة لعدد من السجايا الكريمة أساسها قوة الإرادة وصدق العزيمة وعلو الهمة مهما تعب الجسم . ولقد كانت هذه الصفة المزاج الخلقي الذي اختص به أحمد فقد جمع بها بين الفقر والجود والعفة والعزة والإباء والعفو واحتمال الأذى وهي التي جعلته يحتمل الرحلات وما فيها من مشقة في طلب الحديث وهي التي جعلته لا يتحمل منة العطاء ويؤجر نفسه لحمل الأثقال والنسخ وهذه الصفة هي التي تحمل بها البلاء الأكبر الذي نزل به في ثمانية وعشرين شهرا من ضرب مبرح وسجن مضيق ثم جعلته يتحمل الانقطاع عن الناس والامتناع من التحديث وشرح مسائل الدين طول مدة الواثق أو جلها ولم يكن هذا وفقط بل كان صبره صبرا جميلا من غير أنيت أو ضجر أو شكوي.

لقد كان ذا جنان ثابت لا يفزعه أمر قد اعتز بالله ـ تعال ـ وحده وتوكل عليه، ونظر إلي ما عنده ولم ينظر ألي ما عند الناس ولم يحس بعظمة غير عظمة الله وبذلك علا عن مستوي من كانوا يؤذونه واستهان بالشدائد ومنزلتها واستهان بالحياة ومتاعها فرضي من متاعها بالقليل ولم يقنع من العمل لغير الله بالكثير الوفير.[15]

لقد بهر أحمد الناس بأخلاقه حتي أنهم كانوا يترددون علي مجلسه لا ليتعلموا العلم، وإنما لينتفعوا من أخلاقه، فهذا واحد من معاصريه يقول:” اختلفت إلي أبي عبد الله اثنتي عشرة سنة، وهو يقرأ المسند علي أولاده، فما كتبت حديثا منه واحدا، وإنما كنت أميل إلي هديه وأخلاقه.[16]

فهذه أخلاق أحمد وصفاته, وهي قبسة من الهدي النبوي الكريم, اتبع فيها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فرحم الله أحمد ورضي عنه وجمعنا به في جناته.

[1] [2] تاريخ المذاهب الإسلامية للشيخ محمد أبو زهرة صـ477

[3] السابق صـ507 و مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي صـ594 والقائل محمد بن إبراهيم البو شنجي.

[4] تاريخ المذاهب الإسلامية صـ476

[5] [6] سير أعلام النبلاء للذهبي.

[7] تاريخ المذاهب الإسلامية صـ495

[8] يعني عمل أجيرا لديهم.

[9] تاريخ المذاهب الإسلامية صـ479و مناقب الإمام أحمد صـ309و صفة الصفوة جـ2 صـ 173

[10] مناقب الامام أحمد صـ314 و صفة الصفوة جـ2 صـ173 و تاريخ المذاهب الإسلامية صـ497

[11] تاريخ المذاهب الإسلامية صـ504

[12] مناقب الإمام أحمد صـ303

[13] السابق صـ304

[14] السابق صـ294

[15] تاريخ المذاهب الإسلامية صـ 502 وما بعدها بتصرف واختصار.

[16] تاريخ المذاهب الإسلامية صـ 483

الفتى اليتيم الذي صار إماما ..  لمتابعة المزيد من الموضوعات يمكنكم متابعة صفحتنا على الفيسبوك مهذبون

الفتى النجيب الذي صار إماما .. الفتى النجيب الذي صار إماما .. الفتى النجيب الذي صار إماما .. الفتى النجيب الذي صار إماما .. 

Comments

comments

عن Waleed

شاهد أيضاً

وتفرقا عليه

وتفرقا عليه …. بقلم روضة صلاح .. مهذبون معا نرتقي

وتفرقا عليه … بقلم روضة صلاح وتفرقا عليه .. بعد أن قَتَل قابيل هابيل ورُميَ …