أرجوكِ عودي
أرجوكِ عودي

أرجوكِ عودي … قصة قصيرة بقلم زهيرة أرميل


أرجوك عودي بقلم زهيرة أرميل

أرجوكِ عودي .. ولدت في البادية كان أول ما أراه في حياتي غرفة مبنية من الطين الأحمر وسقفها من العود،بالطبع لم أعي أن ذلك الشيء الذي يشكل الجدران اسمه طين وان الذي يغطي السقف إسمه عود،لم أكن أعلم أن ذلك سقف أصلا.
توالت الأيام ،بدأت أكبر شيئا فشيئا،بدأت أحفظ أسماء الأشياء التي تحيط بي بل وكنت أجربها أيضا،لطالما وجدتني أمي أكل التراب ولب الحجر،ولن أنكر لقد كان للحجر مذاق لذيذ.
لم أكن أعرف أن هناك لعب إسمها دمى او عرائس، ولا ان هناك شيء إسمه سرير ووسادة من ريش،لطالما افترشت وعائلتي الحصير وكان دراع أمي هو وسادتي المفضلة لا أنام إلا وأنا واضعة ثقل رأسي الصغير الخالي من المشاكل على مرفقها ورامية بدراعي حول خصرها،كانت كلما لاحظت رغبتي في النوم،سبقتني لمكان نومنا المعتاد وأفرشت الزرابي فوق الحصير ووضعت دراعها جانبا ودعتني للنوم فأرتمي الى حضنها كصغير الكنغر باحثة عن الدفئ والأمان.
كانت لعبتي المفضلة هي اللعب بشعر أمي ووجه أمي،لقد كان أول مساحة أرغب باستكشافها أكثر وأكثر،ثارة أدخل اصبعي في انفها وثارة أخرى في أذنها،وعندما أمل أشد شعرها ..إلى أن تتأوه.
كنت أقضي أغلب وقتي بين اللعب البريئ والنوم وطريق المدرسة.
كنت نقية،نقية لدرجة أنني عندما كبرت لم أستوعب خبث العالم .لقد كنت أظن ان الشرير الوحيد الموجود في العالم هو شرشبيل عدو السنافر،وان المشكل الحقيقي الوحيد الذي يستحق البكاء هو شعوري بالجوع.
كبرت وتمنيت لو كان ظني حقيقة.
تجاوزت عمر ثمانية سنين سافرت لأول مرة مع أمي خارج البادية للمدينة عند احد أقرباء أبي كانت أول مرة أسافر فيها ،لذلك أصبت بالغثيان في سيارة الأجرة ،احست أمي بذلك فوضعت أمام فمي كيس بلاستيك،لأتقيء داخله ولا أتلف السيارة ولكي لا اسبب إزعاج للركاب برائحة قيئي أيضا ،وظلت تراقبني ضاغطة براحة يديها على جنبات رأسي وانا أخرج ما بداخل أمعائي وأسلمه برضى تام لمعدة الكيس.
ضوضاء،سيارات،إشارات مرور والكثير من الناس بالطبع فنحن في طريقنا للمدينة!
لم أستيقظ إلا وانا وسط جسم رطب وناعم وشيء تحت رأسي غير دراع أمي كما أنه لا يشبه وسائدنا الصلبة في البادية.
كانت أول مرة أرى شيء إسمه سرير ،بل وناعم ورطب أيضا مرفق بوسادة لا تقل عليه نعومة تمنيت لوهلة لو تحول دراع أمي الصلب لدراع ناعم محشو بالريش كالوسادة.
رأيت ألعاب أخرى غير اللعب بالحجر والتراب والحبل ووجه أمي غير لعبة الغميضة رأيت الدمى والعرائس في مختلف الأحجام والأشكال،كانت إحداها تشبه أمي.
كنت لأول مرة أحس بأنني فعلا في الحياة،لوهلة تمنيت لو استبدلت عائلتي بعائلة متحضرة في المدينة ،وأملك غرفة خاصة والكثير من الدمى والعرائس.
مرت الزيارة بسلام وبالكثير من السعادة والاكتشافات الجديدة،واو لقد عرفت أن هناك سرير ودمى.
ونحن عائدون للمنزل،إحتظنت دمية وأصررت على جلبها معي لبيتنا وأبيت أن أتخلى عن قراري. تشبث بها إلى أن تنازل أصحاب البيت لي بها وربحت المواجهة.
سالي هكذا أسميت دميتي التي تحولت بعد ذلك لأمي الثانية المحشوة.
احتلت سالي مكانة أمي في الكثير من الأوقات،كنت أحدثها عن مشاكلي الصغيرة والتافهة التي لطالما حدثت أمي بها،كما أنني اتخذت جسد سالي_ المحشو بالقطن الناعم وسادة وتخليت عن دراع أمي.
أحلت أمي للتقاعد المبكر فما عادت تهتم بمواعيد نومي ولم تعد تلاحظ رغبتي في القيام بذلك فهي تعلم أنني عوضت دراعها بدمية. أصبحت المسؤولة عن موعد نومي أنام عندما أرغب بذلك وكان هذا القرار نقطة البداية فقط.
وانا في الخامسة عشر من عمري سافرت للدراسة في المدينة،إعتمدت على نفسي في الكثير من الأمور وحققت البعض من أحلامي وحصلت على سرير والكثير من الدمى ،وهاتف وبعض من الملاهي الأخرى.
كبِرتُ وكبرت أمي ولم أعر لكبر سنها أي إهتمام،كنت مهتمة بحياتي بدراستي وألعابي.
اعتدت السفر وحدي وأصبحت أخد حبوب منع الغثيان وتخليت عن كيس أمي البلاستيكي.
كبرت أكثر ولم أعد قاصر،أصبحت أنظف ملابسي بأحدث مساحيق التنظيف وأتعطر بأجمل العطور،مستبدلة بذلك الصابون الذي كانت تستخدمه أمي لتنظيف ملابسي المتسخة ولم أكتفي بذلك فقط بل وأصبحت أتقزز من رائحته عندما تفوح من ملابس أمي.

بدأت أرقام عمري تزداد وبدأت أشك في مصداقية أمي ولم أعد أطيق سماع صوتها،لقد كان مملا،مبتدلا،وغير مقنع.
كانت كلما توجه لي نصيحة أنعتها بيني وبين نفسي بالمتخلفة أفكارك رجعية يا أمي وليست مواكبة للعصر.
استبدلت نصائح أمي بكتب التنمية الذاتية ،واستبدلت أمي بالكثير من الدمى والأصدقاء.
كان عمري يمشي وعمر أمي يهرول ،ولم أعِر لسرعته أي اهتمام.
كبرت وكبرت. إلى أن ماتت أمي فصغرت من جديد فجأة.
رحلت أمي ورحل معها شغفي بحياة المدينة وإعجابي بالرفاهية التي حصلت عليها.
تخليت عن السرير لأنني اكتشفت أن الحصير كان أحلى وأنعم بقرب أمي.
حرقت الدمة وأنا أذرف الدموع لأنني وببساطة لم أكن أحرق الدمى فحسب، بل كنت أحرق الأدرع الاصطناعية التي استبدلت بها دراع أمي،كنت أحرق الأجساد محشوة التي استبدلت بها روح وجسد أمي الحي.
تخليت عن الكل وعن كل شيء امتلكت في بلاد الحضارة كما يسمونها ،بلاد الفقر(المشاعر) والحزن والإكتئاب كما أصبحت أسميها.
لملمت ما تبقى مني،وقصدت المحطة عائدة إلى وكر أمي،بيت أمي إلى حياتي الأولى.
تخليت عن حبوب منع الغثيان وعوضتهم بكيس بلاستيكي كما كانت تفعل أمي،ولكن لم أجد من يعوض اليد التي كانت تمسك برأسي.
عدت للبيت ،افترشت الحصير والزرابي ونمت في المكان الذي كنت أنام فيه مع أمي،ولكن لم أنم بنفس الطريقة لم أشعر بنفس الشعور كان ينقصني دراع أمي.
تخلصت من عرائسي ولكنني لم أجد وجها ألعب به كوجه أمي الملائكي،إشتقت لرائحة عرقها ،لرائحة شعرها اشتقت لأن أقحم أصبعي السبابة في مغارات أنفها.
اتسخت ملابسي فاستعملت الصابون لغسلها فكانت أول مرة أكتشف رائحته الجميلة ولكن رائحته كانت أجمل في يدا أمي.
أمي مزقي ورقة استقالتك وعودي،أعيدي دراعك نصائحك وكلامك للخدمة فأنا لازلت بحاجة لهما أمي أعيدي البساطة للحياة وعودي.
لقد استقال الكثير من حياتي بتوقيع مني،وإستقالتك وقعت دون إذن مني
كنتُ صغيرة فكنتي الملاذ الوحيد لي في كل حالاتي حزني وسعادتي وانكساري تقت لفطام فكان لي ما تمنيت،كبرت بدون وقت وتحملت المسؤولية قبل حلول أوان ذلك،كبرت وانا صغيرة يا أمي وأحلتك للتقاعد. فعاندتي وإستقلتي نهائيا.
والأن انا افتل خيوط الحزن الطويلة،اتخبط ذاخل شباك الندم.
لقد تخلصت يا أمي من كل ما أبعدني عنك،تخلصت منهم نهائيا وعدت إليك فتوقفي عن العناد وعودي.
تعالي،دعيني العب في ثنايا وجهك،أتركيني انام على ذراعك الصلب ونفترش الحصير.
اتذكر حينما قلتي لي يوما يا أمي لن تجدي من يحبك مثلي كبرت يا أمي ،رحلتي فتيقنت،دُماي لم تتشبث بي،حتى السرير الذي استبدلت به دراعك ..لم يتشبث بي،لم يحبوني كما احببتهم ولا كما احببتني.
وصلت للحقيقة متأخرة، ولكن المهم أنني وصلت.
وصلت فتقت للوصال بماضيي فصلت،فعدت لحياتي الماضية،لحياتي الطبيعية وعدت لأصلي،لبيتنا ولمكان نومنا المعتاد،عاد كل شيء كما كان إلا أنت

أرجوكِ عودي أرجوكِ عودي أرجوكِ عودي أرجوكِ عودي أرجوكِ عودي أرجوكِ عودي

           فأرجوك عودي

موضوعات مشابهة (أناشيد الإثم)

للمزيد تابعونا على صفحة مهذبون على الفيسبوك مهذبون

Comments

comments

عن Waleed

شاهد أيضاً

تخفف من أصنامك

تخفف من أصنامك …الحياة التقليلية كتبت سارة عبد اللطيف

مقالات تخفف من أصنامك …. الحياة التقليلية .. كتبت سارة عبد اللطيف تخفف من أصنامك …