في المنتصف القاصم
في المنتصف القاصم
خُدوا بعض يا وِلد وروحوا إلعبوا كورة في السِهراية مع عيال خالتكم لحد ما المِغرِب ييَّدِن
على ما أذكر كانت تلك المرة الأولى التي تعرفتُ فيها على محمد، رغم أني لا أذكر اللقاءات الأولى أبدًا، ورغم أن اللقاء بعيدًا وكُنا صغارًا، إلا أني أذكر جيدًا تلك المرة
كنا في بيت جدي لأمي في يومِ جمعةٍ من شهر رمضان، بالتحديد بعد صلاة العصر؛ حيث تجتمع النساء يومًا في ثانِ اسبوع من كل عامٍ لإعداد الإفطار للصائمين، حيث يجتمع في المضافة كل رجال العائلة.
عصائرٌ وكاسات وأباريقٌ يملأُها التمر واللبن، وأطباقٌ وطاسات وعلاليق خُبزٍ تسبقها اللحوم مُغطاة والزحف كالخَدَم، وترحيلًا واستقبال، وفرحةً باستعجال، ويومًا ينتهي بلَذَّةٍ في القلب لا تعدلها لذة، وطقوس تترك موقفًا من الروح لا يفوته شيء من أسبابِ الدنيا.
كانت تنشبُّ بيني وبين ومحمد خلافات كروية كثيرة حول صحة الأهداف أو احتساب الأخطاء منذ أن عرفته، تبدأ عادةً بالتلاسن ثم تتطور فجأةً إلىعراك وتنتهي بيننا بألَّدِ الخصام!
كنا نلعب دائمًا في فريقين مختلفتين، وفي كل مرة كنا نتعارك. كانت الخلافات بيننا كيدية أكثر من أنها كروية، وخاصةً لاقترابنا في السِنِّ والشَبَه، لولا أن ملامحهُ كانت أجمل.
بلغنا من العُمرِ عدد سنين، وكبرنا، ولكن لم يكبر معنا الخلاف، صارت الخلافات الكيدية بيننا أقل وطأةً وأبعد حينًا، وتبدلت معنا الأيام والأحلام.
حكت لي جدتي مرة أن أفتَكَ أمراض القلب هو التعوّد، تعوّد الكُرهْ، أو تعود المحبة، ذاكَ أنهُ يُعمي أعيُننا عما يلزمنا، يعميها عن الحُسنِ والقباحة، ويخلِطُ بينَ المَتن والهوامش، ويُصيبُ القلب والذاكرة بالعَطَب على حدٍّ سواء، فيصيرُ القلبُ فاترَ اللونِ والنبضات، وتكتسي الذاكرةُ بمسحةِ سوادٍ مقيتة.
وسطَ كُل هذا الخلط، والاعتياد، والزُّهد والملل والفتور، هناكَ المحبة التي تأتي بعد عداوة، وهي أشدُّ أنواع المحبة، أشدُّ من المحبةِ الدارجة، لأنها تأتي بالحب، تأتي من العَدَم، الحب فقط الذي لا يشوبه عداوةٌ مجددةٌ أو ضغينة، وفي الغالب تأتي مصيبته عظيمة لأن ضربته دائمًا تأتي في المنتصف، هنا بالتحديد، في المنتصف القاصم!
فجأةً صرنا أنا ومحمد أحبّة، كأننا لم نراوغ طوال أكثر من عشرين سنة متعللين بأسبابٍ حقيقيةٍ أو مُختلقَة. أسهرُ في بيتهِ ويمر عليَّ في بيتي بدراجتهِ البخارية لنستقلها ونذهب سويًا لنلعب الكُرَة، نلتقي في بيت صديق مشترك بيننا. اتفقنا مؤخرًا أن نسافر إلى البحر الأحمر رابع أيام عيد الأضحى.
هو الذي جاء يودعني ليلة وفاته وقلَّني حتى باب المنزل، ثالث ليلةٍ من أيامِ العيد، قال لي وهو يتأهب للمغادرة:
– ماتنامش وهنبقوا نناموا في الطريق، هعدي عليك بعد الفجر أنا والوِلّْد.. هنستنوك!
مَرُّوا عليّ بالفعل، وكنت بين النوم والصحو طوال الليل، لم أنَم. لكني لم أذهب معهم، ولا أدري ما السبب. كنا متفقين قبلها بأيامٍ عِدَّة على السفر، ولكن شيئًا ما بداخلي كان يهاتفني قائلًا “لا تذهب!”، نادوا وانتظروا كثيرًا أمام البيت، لكني لم أجب!
ومع نهاية اليوم جاءنا خبر الحادث، وخبر موت محمد، لم أصدق، ولا أصدق حتى الآن، وما زلت أنتظرُ إلى اليوم أن يرجع.
الانتظار. كلنا يعرف الانتظار، فهو ملازمٌ للحياةِ لا بديل لها.
أن تنتظر ساعة، يومًا أو يومين، شهرًا أو سنة أو ربما سنوات. تقول طالت، ولكنك تنتظر. كم يمكن أن ننتظر؟
يرهقني التفكير، يرهقني تعيينه بالكلام، لكني أعرف وأنا أنتظر أني سأفرح، وأعشق، وأدفن موتاي، أعيد بناء بيتًا تهدَّم على رأسي أو أُعمِّر بيتًا جديدًا، وتحت مظلة الانتظار سأتزوج وربما أنجب أبناءً وأُسَمِّي أحدهم محمد.
في المنتصف القاصم في المنتصف القاصم في المنتصف القاصم