الليث بن سعد فقيه مصر
الليث بن سعد فقيه مصر

علماء مهذبون .. “المعطي بسخاء”

الليث بن سعد .. فقيه مصر

علي أرض مصى عاش عالم جليل، شهد له بالفضل والعلم كل من جالسه، أو تعامل معه.
كان _رحمه الله_ أحد الأعلام والأئمة الأثبات؛ ثقة، حجة بلا نزاع، واسع الأفق، رحب الصدر، يتصرف بذكاء وحكمة. ذلكم العالم هو “الليث بن سعد”.
قال ابن سعد في طبقاته: “كان الليث ثقة، كثير الحديث، صحيحه، وكان قد استقل بالفتوى في زمانه بمصر، وكان سريا _أي صاحب سخاء في مرءة_ من الرجال، نبيلا سخيا له ضيافة”.
وكان الليث فقيه النفس، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة.
كان _رحمه الله_ كريما لأبعد مدى يمكن أن يتخيله المرء، فكان المال عنده عارية؛ ينفقه ابتغاء مرضاة الله _عز وجل_، يسد به حاجة الناس من عرف، منهم ومن لم يعرف. اختلفت الروايات في مقدار ثروته، فقيل: ما بين العشرين ألف إلى مائة ألف دينار، ومع هذه الثروة العظيمة لم تجب عليه الزكاة قط في ماله، بل ربما أصبح مدينا في آخر العام؛ لكثرة إنفاقه. قال ولده شعيب: “قال أبي: ما وجبت عليّ زكاة قط منذ بلغت”. فكان الليث يبذل ماله؛ ليعين إخوانه من العلماء، فكان _رحمه الله_ يعين الإمامَ مالكًا ويصله في كل عام بمائة دينار، فكتب إليه مالك أن عليه دينا؛ فبعث إليه الليث خمسائة دينار.
وقال أبو صالح كاتب الليث: “كنا على باب مالك بن أنس، فامتنع علينا _أي احتجب_ فقلنا: ليس يشبه هذا صاحبنا. قال: فسمع مالك كلامنا، فأمر بادخالنا عليه، فقال لنا: من صاحبكم؟ قلنا: الليث بن سعد. فقال مالك: تشبهوني برجل كتبتُ إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ إلينا منه ما صبغنا به ثياب صبياننا، وثياب جيراننا، وبعنا الفضل منه بألف دينار.
لقد كان الليث يكافئ من صنع له معروفا، ويجزل له العطاء بأكثر من معروفه، فلما حج الليث مع ولده شعيب، ونزل المدينة؛ أرسل إليه الإمام مالك بطبق رطب، فجعل الليث على الطبق ألف دينار ورده إليه.
لقد كان المال عنده سبيلا لمواساة الغرباء والمحتاجين، حتى وإن لم يكونوا محتاجين، فلما قدم أسد بن موسى إلى مصر دخلها في هيئة رثة، فدخل مجلس الليث، فلما فرغ المجلس؛ تبع خادم الليث أسد بن موسى، ثم قال له: اجلس حتى أخرج إليك، فجلس، فخرج له ودفع إليه صرة فيها مائة دينار، وقال: يقول لك ليث: أصلح بهذه النفقة أمرك، ولم بها شعثك.
وكما كان المال عنده يصل به إخوانه، فكذلك كان يعين به الناس على نوائب الحق، فلما احترقت مكتبة ابن لهيعة؛ بعث إليه الليث بألف دينار. وجاءته امرأة تطلب قدرا من عسل لغلام لها مرض واشتهى عسلا، فأمر لها الليث بمرط _وهو مائة وعشرين رطلا_ فرأى كاتبه مع المرأة إناءً صغيرا، فأخبر الليث. فقال: طلبت على قدرها وأعطيناها على قدرنا.
وكان يتصدق في كل صلاة على ثلاثمائة مسكين، ويطعم كل يوم ثلاثمائة وستين مسكينا، وكان يصنع الطعام، ويضع فيه الدنانير من الذهب، فمن أصاب شيئا منها فهو له.
وكان شديد الخشية لله، يبكى إذا ذكر به، دخل منصور بن عمار مصر فخطب في جامعها، فلما انتهى إذ برجلان يصاحبانه حتى دخلا به على الليث، فقال له: أنت المتكل في المسجد؟ قال منصور: نعم. فقال الليث: رد علي الكلام الذي تكلمت به، فلما كلمه رق وبكى. ثم أمر الليث له بعطاء، وأوصاه أن يصون كلامه من أن يقف به على أبواب السلاطين، وألا يمدح أحدا من المخلوقين بعد مدحه لرب العالمين.
ولقى سعيدا الآدمي، فأوصاه أن يكتب له أسماء المحتاجين ممن يلزم المسجد ولا غلة له ولا بضاعة. فلما أخذ سعيد في جمعهم له، إذ بآت أتاه، فقال له: يا سعيد، تأتي إلي قوم عاملوا الله _عز وجل_ سرا، فتكشفهم لآدمي. مات الليث، ومات شعيب بن الليث، أليس مردهم إلى الله الذي عاملوه؟ فلما قدم سعيد على الليث، أخبره بما كان من أمره؛ فصرخ الليث صرخة جمعت الناس عليه، ثم قال: يا سعيد، تبينتَها وحرمتُها. أليس مردهم إلى الله الذي عاملوه؟!
إن الليث فقه معنى الآيات التي تدعو إلى الإنفاق، والبذل، والعطاء. فكان يدخر لنفسه عند ربه الأجر، يرجو من الله الخير ويثق بوعده حيث قال سبحانه: “وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون”، وقال سبحانه: “إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم”.
فهذا هو الليث بن سعد، كان شهما كريما بالنسبة للقريب والبعيد، وآثر مكارم الأخلاق طيلة حياته، فرحم الله الليث وجمعنا به في جنته ودار كرامته. آمين آمين.
………………………………………………………………………….
المراجع
_الليث بن سعد إمام أهل مصر د. عبد الحليم محمود
_الليث بن سعد آثاره وحجهوده في حفظ السنة أحمد حسن عبد الجواد
_ الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية لابن حجر
_ الطبقات الكبرى لابن سعد
_ صفة الصفوة لابن الجوزي

Comments

comments

عن Mona Abdelaziz

شاهد أيضاً

أرجوكِ عودي

أرجوكِ عودي … قصة قصيرة بقلم زهيرة أرميل

أرجوك عودي بقلم زهيرة أرميل أرجوكِ عودي .. ولدت في البادية كان أول ما أراه …