الإمام الشمس والضحيالشافعي..
جاء في الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ” إن من أحبكم إلي, وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا”؛ ولذا فإن كل الناس يسعي لينال محبة النبي (صلي الله عليه وسلم) والقرب منه يوم القيامة، وإن العلماء يسعون جاهدين لنيل هذه الدرجة، لاسيما وإن كان العالم منتسبا لآل بيت النبي (صلي الله عليه وسلم)، وإن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ كان منتسبا إلي آل بيت النبي (صلي الله عليه وسلم)، وكان رحمه الله ذا خلق يُحسد عليه، أحبه الناس لأجل علمه وخلقه.
لقد كان الشافعي جوادا كريما ينفق مما آتاه الله، وكان أشد ما يجده من المصائب أن يسأله سائل ويرده دون أن يقضي عليه حاجته، فكان مما قاله في ذلك :
يا لهف نفسي علي مـال أفرقه… علي المقليــن من أهــل المــروءات
إن اعتذاري إلي من جاء يسألني… ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات
وقد ذكر أنه قدم من صنعاء إلي مكة بعشرة آلاف دينار، فنصب خيمته خارج مكة، فكان الناس يأتونه، فما برح حتي وهبها كلها.
ولما ناظر الشافعي بشرا المريسي، فغلبه وظهر عليه، أمر له هارون الرشيد بخمسين ألف درهم، فانصرف الشافعي وليس معه شيء، قد تصدق بجميع ذلك ووصل به الناس.
لقد كان الشافعي آية في المناظرة والإقناع، حتي قيل عنه : لو ناظر علي عمود من حجر أنه خشب لكان له ذلك. ولكنه علي تفوقه في المناظرة كان يتمتع بأدب الخلاف وبحسن الصحبة، وهذا إن دل فإنما يدل علي حسن عقله وفرط ذكائه في كسب مودة الناس وحبهم، ولعل موقفه مع يونس الصدفي خير دليل علي ذلك، فقلد قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة ثم افترقنا، فلقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسي، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق.
ولم يكن الشافعي كذلك ممن يستهويه القول والمفاخرة بالغلبة والظهور علي مناظريه، فقد روي عنه أنه قال: ما ناظرت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون علي رعاية من الله ـ عز وجل ـ، وما كلمت أحدا قط إلا ولم أبال بين الله الحق علي لساني أو لسانه، وما أحببت أن يخطئ.
علي أن الذين يصاولون بالبيان، وينازلون بالحجة، يندر فيهم من لم يدخله زهو، ويناله حب علو، وقد كان الشافعي من هذا القليل النادر؛ ولذا ما كان يغضب في جدال، ولا يستطيل بحدة لسان؛ لأنه لا يبغي الحمق ولا يبغي جاها، ولقد بلغ من زهده في جاه العلم وإخلاصه في طلب الحق وفنائه فيه، أن كان يتمني أن ينتفع الناس بعلمه من غير أن ينسب إليه، فقد جاء في تاريخ الحافظ ابن كثير أنه كان يقول: ” وددت لو أن الناس تعلموا هذا العلم، ولا ينسب إليً شيء منه، فأُؤجر عليه ولا يحمدوني”.
ولقد أكسبه الإخلاص ذكاء قلب وقوة نفس وتباعدا عن الدنايا، وتساميا عما لا يليق بالرجل الكامل، ولقد قال يحي بن معين في خلق الشافعي: ” لو كان الكذب مباحا، لكانت مرؤته تمنعه من أن يكذب”. وهذا أسمي ما يصل إليه المخلص الصدوق، يقوم بما يجب استجابة لضميره ووجدانه، لا لمجرد الأمر والنهي.
إن المتأمل في شعر الشافعي ـ رحمه الله ـ يراه قد تحدث عن جانبا من أخلاقه، تاركا في أبياته أنموذجا من الخلق الطيب استقام هو عليه وتركه لمن بعده يستدل به في طريقه إلي الأخلاق؛ حتي يكون مرشدا وهاديا لمن سلكه واستقام عليه، فكان مما قاله ـ رحمه الله ـ عن النهي عن الطمع والأمر بالقنوع:
أمتُ مطامعي فأرحت نفسي… فإن النفس ما طمعت تهون
وأحببت القُنوع وكان ميتا … ففي إحيائــه عـرض مصون
إذا طمع يخل بقلب عبد … علـتـــه مهانـة وعـــلاه هــون.
وكان مما قاله في لين الجانب والترفع عن رد الإساءة والتطاول:
إذا سبني نذل تزايدت رفعة … وما العيب إلا أن أكون مساببه
ولم لم تكن نفسي علي عزيزة… لمكنتها من كل نذل تحاربه
ولو أنني أسعي لنفعي وجدتني… كثـيـر التواني للذي أنا طالبه
ولكنني أسعي لأنفع صاحبي… وعار علي الشبعان إن جاع صاحبه.
لم يكن الشافعي يرضي أن يسعي إليه أحد ليوقع بينه وبين الناس، وكان يرفض ذلك ويرد كل من فعله، وكان من قوله في ذلك: ” قبول السعاية شر من السعاية؛ لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل علي شيء كمن قبل به وأجاز”.
مع كل هذا لم يكن أحد ليستغرب أن يوصف الشافعي بأنه الشمس والضحى، فعن الربيع بن سليمان قال: “كنا جلوسا في حلقة الشافعي بعد موته بيسير، فوقف علينا أعرابي فسلم ثم قال لنا: أين شمس هذه الحلقة وضحاها؟ قلنا: توفي رحمه الله. فبكي بكاءا شديدا ثم قال: رحمه الله وغفر له فلقد كان يفتح ببيانه منغلق الحجة، ويسد علي خصومه واضح المحجة، ويغسل من العار وجوها مسودة، ويوسع بالرأي أبوابا منسدة. ثم انصرف.
هكذا كان الشافعي ـ رحمه الله ـ آية بين الناس، عالما وقدوة، فرحم الله الشافعي وجمعنا به في جنته.
الإمام الشمس والضحى .. تابعوا المزيد على صفحتنا على الفيسبوك مهذبون