أبو حنيفة … شيخ الفقهاء
كان الإمام ابو حنيفة النعمان بن ثابت – رحمه الله – آية في الفقه والاستنباط حتي قيل : الفقهاء عيال في الفقه علي أبي حنيفة. ومع براعته في الفقه والاستدلال والمناظرة ومحاجة الخصوم، كان ذا خلق حميد يعاشر به الناس، يتألف قلوبهم ويكسب ودهم، فيأسرُ قلوبهم بخلقه كما يأسر عقولهم بعلمه. ونحن هنا نعرض شيئا من أخلاق هذا العالم الجليل من خلال الحلقة الرابعة من سلسلة علماء مهذبون فنقول:
لقد كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله وقافا عند حدود الله -عز وجل -، يخشع إذا ذُكِرَ بالله، لم يكن كما هو حالنا الآن، تثور حميتنا وتفور دماؤنا إذا ذكرنا أحدهم بالله عز وجل. قيل له يوما: اتق الله. فانتفض وطأطأ رأسه، وقال لمحدثه: يا أخي جزاك الله خيرا، ما أحوج الناس إلي من يذكرهم الله تعالي وقت إعجابهم بما يظهر علي ألسنتهم من العلم؛ حتي يريدوا الله تعالي بأعمالهم.
ولقد كان كذلك ضابطا لنفسه، لا تعبث به الكلمات العارضة، ولا العبارات النابية، كان مرة يخطئ واعظ العراق الحسن البصري -رحمه الله -، فوقع رجل فيه وسبه وقال له: أنت تخطئ الحسن البصري! فما تغير وجهه وقال: إي والله، أخطأ الحسن وأصاب عبد الله بن مسعود. ثم قال: اللهم من ضاق صدره بنا، فإن قلوبنا قد اتسعت اليه. لكنه مع هدوء النفس هذا الذي اتصف به كان ذا قلب شاعر، ونفس محسة، حليما صبورا، ليس بالفاحش ولا البذيء، يرد الإساءة بالإحسان، كان في إحدى مناظراته فقال له مناظره: يا مبتدع يا زنديق، فقال أبو حنيفة: يغفر الله لك، الله يعلم مني خلاف ما قلت. وأني ما عدلت به أحدا منذ عرفته، ولا أرجو إلا عفوه، ولا أخاف إلا عقابه. ثم بكي رحمه الله عند ذكر العقاب وخر صريعا، ثم أفاق. فقال له الرجل: اجعلني في حل. فقال الإمام رحمه الله: كل من قال فيّ شيئا من أهل الجهل فهو في حل، ومن قال فيّ شيئا مما ليس فيّ من أهل العلم فهو في حرج؛ فإن غيبة العلماء تبقي شيئا بعدهم. وكان في تجارته متصفا بصفات أربع جعلته في المكانة العالية بين التجار وبين الناس، فكان مما اتصف به:
أـ غني النفس فلم يستول عليه الطمع الذي يفقر النفوس.
ب- الأمانة فكان عظيم الأمانة شديدا علي نفسه في كل ما يتصل بها.
ج- سمحا وقاه الله تعالي شح النفس.
د- وكان بالغ التدين، يري في حسن المعاملة عبادة.
فكان لهذه الأوصاف مجتمعة أثرها في تجارته، حتي كان غريبا بين التجار، قد شبهه كثيرون في تجارته بأبي بكر الصديق، إذ كان أبو حنيفة يسير علي منهاجه.
وكان في تجارته متحريا الحلال، شديد الحرج في كل ما تخالطه شبهة الإثم، ولو كانت بعيدة، فيروي أنه بعث شريكه حفص بن عبد الرحمن بمتاع، وأعلمه أن في ثوب منه عيبا وأوجب عليه أن يبين العيب عند بيعه، فباع حفص المتاع، ونسي أن يبين الثوب المعيب، ولم يعلم من الذي اشتراه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بالمتاع كله.
لم يكن شأن المال يشغل أبا حنيفة في شيء، بل ربما تنازل عن ماله ليكسب ود إخوانه، ويرفع عنهم الحرج الذي يلاقونه إن كان عليهم دين لأبي حنيفة.
ولقد كان كذلك للكرم أهلا وعنوانا، حتي أنه كان إذا أنفق نفقة علي عياله تصدق بمثلها، وإذا اكتسي ثوبا جديدا اكسي بقدر ثمنه الشيوخ من أهل العلم، وإذا وضع الطعام بين يديه أخذ من عنده فوضع علي الخبز نحوا مما يأكل وأطعمه للفقراء.
فكان رحمه الله يتمثل ما جاء في الأثر” أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا”. فكان يتفقد أحوا إخوانه في منازلهم، يقرض الرجل الخمسين الدينار أو الأكثر أو الأقل، علي قدر مئونته، وهو لا يعلم فيشتري له بها الخز الخام ويقصره ويجعله كالبضاعة فيدبرها، ن يشتري له الكسوة ولعياله، ثم يقول أي أخي، هذا ربحك فاحمد ، إني لم أعطك شيئا من مالي، وإنما هو رزق مولاك يدي فاحمده.
لقد كان مع كرمه وجوده يغتم إذا شكره احد علي شيء أعطاه إياه، ويقول: اشكر الله فإنما هو رزق ساقه الله إليك.
كان يسير يوما في طريق فرآه رجل فاختبأ منه، وأخذ الرجل يسلك طريق آخر غير طريق أبي حنيفة. فصاح به الإمام، فجاء إليه. فقال له: لم عدلت عن طريقك؟ فقال الرجل: لك علي عشرة آلاف درهم، وقد طال الوقت علي وأُعسرت، فاستحييتُ منك. فقال أبو حنيفة: سبحان الله! بلغ بك الأمر كل هذا! وهبته منك كله وأشهدت علي نفسي، فلا تتواري، واجعلني في حل مما دخل في قلبك مني.
إن رجلا ينظر معسرا، ويهبه ماله، ويطلب الحل من أن يكون قد دخل نفسه شيء يوغر به عليه، لهو رجل ذو قدم راسخ في منبع الأخلاق ومنبتها، وإن من تحلي بمثل هذه الأخلاق يأتمنه الناس علي انفسهم وعلي أموالهم، وهم واثقون أنهم لن يضيعوا، بل إنهم محفوظون. وهكذا كان ابو حنيفة – رحمه الله – أودعه رجل مائة ألف وسبعين ألف درهم ومات من غير وصية، ولم يُعْلم بها أحدا من أهله، وترك صبية صغارا، فلما كبروا وأُونس منهم الرشد، دفع لهم أموالهم لم يشهد عليهم، وقال: لا أحب أن يعلم أحد بها.
لقد وصف أبو يوسف شيخه أبا حنيفة لما سأله الرشيد أن يصفه له فقال: يا أمير المؤمنين، قال الله – عز وجل – :” ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ” وهو عند لسان كل قائل، كان أبو حنيفة علمي فيه أنه شديد الذب عن حرام الله عز وجل أن يوقع فيه، مجانبا لأهل الدنيا في دنياهم، طويل الصمت، دائم الفكر، لم يكن مهذارا ولا ثرثارا، إن سُئل عن مسألة كان عنده علم أجاب فيها علي ما سمع، وما يتبينه قياسا في نحو معناها قال به، ما علمته يا أمير المؤمنين إلا صائنا لنفسه ودينه، مشتغلا بنفسه عن الناس، لا يذكر أحدا إلا بخير. فقال هارون الرشيد: هذه أخلاق الصالحين. وصدق هارون الرشيد.